ونحن نودع رمضان
هذا سيدنا علي (رضي الله عنه) كان ينادي في
آخر ليلة من رمضان: (يا ليت شعري من المقبول
فنهنيه، ومن المحروم فنعزيه).....نعم والله
يا ليت شعري من المقبول منا فنهنئه بحسن
عمله، ومن المطرود منا فنعزيه بسوء
عمله.
أيها المقبولون هنيئًا لكم، وأيها
المردودون جبر الله مصيبتكم، ماذا فات من
فاته خير رمضان؟!
وأي شيء أدرك من أدركه فيه
الحرمان؟!
كم بين من حظه فيه القبول
والغفران ومن حظه فيه الخيبة والخسران؟!
متى يصلح من لم يصلح في رمضان؟!
ومتى يتعظ
ويعتبر ويستفيد ويتغير ويغير من حياته، من
لم يفعل ذلك في رمضان؟!
إنه بحق مدرسة
للتغيير، نغير فيه من أعمالنا وسلوكنا
وعاداتنا وأخلاقنا المخالفة لشرع الله جل
وعلا: إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا
بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا
بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد:11].
ونحن نودع رمضان تعال معنا لنقف وقفات
تنفعنا في الدنيا والآخرة ، فالسعيد منا من
ترك الدنيا قبل أن تتركه ، وعمر قبره قبل أن
يدخله ، وأرضى ربه قبل أن يلقاه .
الوقفة الأولى : تذكر رحيلك من الدنيا
برحيل رمضان !!
تذكر أيها الصائم وأنت تودع شهرك ... سرعة
مرور الأيام ، وانقضاء الأعوام ، فإن في
مرورها وسرعتها عبرة للمعتبرين ، وعظة
للمتعظين قال عز وجل: { يقلب الله الليل
والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار }
(النور 44) .
فيا من ستودع رمضان .. تذكر انك ستودع
الدنيا .. فماذا قدمت لله ؟ هل أنت مستعد
للقائه ؟
إن من عزم على سفر تزود لسفره، وأعد العدة..
فهل أعددت زادًا لسفر الآخرة؟!
فعجبًا لمن أعد للسفر القريب! ولم يعد
للسفر البعيد!!
قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم أي
المؤمنين أفضل؟ قال: (أحسنهم خلقًا).
قال: فأي المؤمنين أكيس؟قال: (أكثرهم للموت
ذكرًا وأحسنهم لما بعده استعدادًا، أولئك
الأكياس).
قال حامد اللفاف: "من أكثر من ذكر الموت!
أكرم بثلاثة أشياء: تعجيل التوبة، وقناعة
القوت، ونشاط العبادة، ومن نسي الموت، عوقب
بثلاثة أشياء، تسويف التوبة، وترك الرضا
بالكفاف، والتكاسل في العبادة".
فاغتنم أيام عمرك قبل فوات الأوان ما دمت
في زمن المهلة ،
قال عمر بن عبد العزيز : " إن
الليل والنهار يعملان فيك ، فاعمل أنت
فيهما " ، وقال ابن مسعود رضي الله عنه : "ما
ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه نقص
فيه أجلي ولم يزد فيه عملي " .
الوقفة الثانية : احذر أخي من أن تكون مثل
بلعم بن باعوراء:-
كان لسيدنا موسى (عليه السلام ) صاحب من
المقربين اليه ... يسمى (بلعم بن باعوراء)
عالم من علماء بني إسرائيل ، وكَانَ
مُجَابَ الدَّعْوَةِ ، لا يَسْأَلُ اللهُ
شَيْئاً إلاَّ أعْطَاهُ إيَّاهُ... بلغ من
ثقة موسى فيه انه قال له : يا بلعام اذهب الى
أهل مدين فبلغهم رسالات الله ، فلما ذهب
بلعام ووقف بينهم خطيبا ومرشدا .. قال له أهل
مدين : كم يعطيك موسى من الأجر على تبليغ هذا
الكلام ؟ فقال بلعام إنما ابلغه ابتغاء
مرضاة الله ... لا أتقاضى على ذلك أجرا ،
فساوموه وجعلوا له مقدارا من الذهب والفضة
... وعندئذ فكر الرجل قليلا ... وبعد ذلك عاد
إليهم وترك نبي الله موسى ، وانقلب على
عقبيه ، وانتظره موسى ليعود إليه ، ولكنه لم
يعد الى موسى فقد أكلته الدنيا ،وباع آخرته
بدنياه .
وعندئذ قص الله عز وجل قصته على نبينا محمد
(صلى الله عليه وسلم ) ، وحذَّرنا من أن نكون
مثله، فبعد أن ذاق حلاوة الإيمان وآتاه
الله آياته، ثم انقلب على عقبيه واشترى
الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة، وانسلخ
من آيات الله كما تنسلخ الحية من جلدها.
فقال تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ
الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ
مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ
فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا
لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ
أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ
هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ
إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ
تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ
الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا
بِآيَاتِنَا فَاقْصُصْ الْقَصَصَ
لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ )[الأعراف:175،
176].
وهذه التحذيرات القرآنية تنطبق على من ذاق
حلاوة طاعة الله تعالى في رمضان، فحافظ فيه
على الواجبات وترك فيه المحرمات، حتى إذا
انقضى الشهر المبارك انسلخ من آيات الله،
ونقض غزله من بعد قوة أنكاثا