أخرج الشيخان عن إبن مسعود عليهم الرضوان جميعا قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق فقال : " إن أحدكم ليجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات : بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد فو الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها ".
أركان العمل الصالح في الإسلام.
1 ــ النية الحسنة. أي أن النية المستكنة في صدر العامل ـ والقول أيضا عمل ـ هي التي تختم العمل بختم الصلاح أو الطلاح من ناحية وهي التي تساهم بالقسط الأوفر في تحديد الأجر عليه من ناحية أخرى ولكن أغلب ذلك لا يدرك إلا يوم القيامة بسبب إختفاء النية في الصدور وقدرة إبن آدم على التزوير مخالفة بين عمل القلب وعمل الجارحة. وذلك هو معنى قوله عليه الصلاة والسلام : " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل إمرئ ما نوى ". ذلك هو جذر الحديث وهو من أصول الإسلام العظمى بل هو أصل الأصول خاصة في أعمال القلوب.
2 ــ إتباع سنة الرسول الأكرم محمد عليه الصلاة والسلام. السنة معناها : الطريق والصراط والنهج والدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام : " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ". أما بعض التفاصيل في تلك السنة فقد يطرأ عليها التغيير لأسباب يضيق المجال هنا عنها كما أننا لسنا مطالبين بإقتفاء سنة الخلفاء الراشدين المعنيين هنا في هذا الحديث إلا من حيث المنهج العام وليس من حيث التفاصيل والجزئيات. السنة هي إذن : الصراط العام وتأخذ معنى الجزئية عندما يكون الحديث في مسألة جزئية.
الإتباع المقصود هنا شرطا لصلاح العمل وركنا من أركانه فيه تفصيل : إذا تعلق الأمر بما لا إجتهاد فيه فإن الإتباع يكون بإجراء العمل بحسب ما ورد دون إبتداع أما إذا تعلق الأمر بما يجري عليه الإجتهاد فإن الإتباع للسنة يكون بإجراء العمل بحسب المنهج العام لتلك السنة وعادة ما تجد كليات ذلك في القرآن الكريم ولكن كلاهما يسمى إتباعا للسنة.
3 ــ حسن الخاتمة. أي أن يموت المرء مؤمنا في الحد الأدنى ولكن لحسن الخاتمة درجات كثيرة أعلاها الشهادة في سبيل الله سبحانه أي درجة الشهادة العليا وليس درجات الشهادة الأخرى من مثل من مات غريقا أو مهدوما أو مبطونا أو نفساء أو غير ذلك. ورد عنه قوله عليه الصلاة والسلام : " يبعث المرء على ما مات عليه " وكان كثير الدعاء بحسن الخاتمة صلى الله عليه وسلم.
تلك هي أركان العمل الصالح في الإسلام وهي تشمل بداية العمل ونهاية العمل وطريقة العمل. وذلك بسبب أن العمل الصالح في الإسلام في أي مجال كان هو دين يتقيد بالكتاب والسنة وليس إجتهادا في غير موضعه أو من غير أهله.
مما يهدي به الله سبحانه إلى حسن الخاتمة :
1 ــ مصاحبة حب الله ورسوله عليه الصلاة والسلام. أخرج الشيخان عن أنس عليه الرضوان أن أعرابيا جاء إليه عليه الصلاة والسلام يسأل : متى الساعة؟ فقال له : ماذا أعددت لها؟ قال : حب الله ورسوله. فقال له : أنت مع من أحببت ". وذلك بسبب أن الحب عمل قلبي إبتداء وعمل القلب ركن من أركان صلاح العمل كما تقدم آنفا. أضف إلى ذلك أن المحب إما أن يصيب الخير بعد إصابته الحق ـ أي محكمات الكتاب والسنة ـ وإما أن يخطئ ذلك فيستغفر ويتوب وفي كل الأحوال فهو ناء عن محادة الله والتألي عليه والتقديم بين يديه وتأويل الجاهلين وإنتحال المبطلين.
2 ــ مصاحبة الخوف من الله. أخرج الترمذي عن أبي هريرة أنه عليه الصلاة والسلام قال : " من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة ". إذا تحرك القلب بالخوف منه سبحانه سارعت الجوارح إلى فعل الخير إتساء بقوله عليه الصلاة والسلام :
" إتقوا النار ولو بشق تمرة ". فإذا قرأ المؤمن هذا الحديث النبوي الكريم وجل قلبه وأدلج أي سار ليلا في إشارة إلى أمرين : تجنب الرياء المحبط للعمل لأن الليل يستر الأشياء كما يستر الإخلاص العمل وثانيهما : فضائل أعمال الليل من صلاة وذكر وغير ذلك.. يقول الحديث الذي أخرجه الشيخان عن النعمان إبن بشير : " إن أهون أهل النار عذابا يوم القيامة لرجل يوضع في أخمص قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه ما يرى أن أحدا أشد منه عذابا وإنه لأهونهم عذابا ".
للجنة بابان :
1 ــ باب العمل.
2 ــ باب الرحمة المتغمدة.
هما بابان في الظاهر ولكنهما باب واحد في الحقيقة. معنى ذلك أنه لا بد منهما : لا بد من العمل ولا بد من رجاء رحمة الرحمان سبحانه التي لم يستغن عنها أكرم الخلق محمد عليه الصلاة والسلام لما قال : لا يدخل الجنة أحد بعمله فقالوا : ولا أنت؟ قال : إلا أن يتغمدني الله برحمته.
الرحمة والعمل صنوان لا ينفصلان. معنى ذلك هو أن الرحمة لا تتنزل على غير مؤمن مات على كفر والعياذ بالله وأن العمل لا يدخل صاحبه الجنة إلا برحمة من الرحمان سبحانه تكافؤا مع علاقة الله بعبده : فهذا مخلوق مصنوع مملوك لا يملك من أمر موته وحياته شيئا وذاك خالق صانع مالك سبحانه.
مشكلة الناس مع الحديث :
مشكلة كثير من الناس مع حديث الموعظة هي إستعجالهم الفهم دون التريث والتأني عند قوله عليه الصلاة والسلام : " فيعمل بعمل أهل الجنة .. فيعمل بعمل أهل النار ..". شدد على أن العامل هو الذي يورد نفسه سوء الخاتمة بعمله السيء بعدما كان عملا حسنا كما شدد على أن العامل هو الذي يورد نفسه حسن الخاتمة بعمله الحسن بعدما كان عمله سيئا. أما سبق الكتاب التي تقذف في النفس شيئا فإنه يجب ردها إلى العمل الذي شدد عليه في الحالين ثم إلى الإيمان بالقضاء والقدر على معنى أن الكتاب سبق بذلك علما خطه في مكنونه بما جرى به القضاء ولكن القدر إنما هو ذلك الذي يختاره العامل لنفسه فيكون مطابقا لما جرى به القضاء وذلك حتى يرسخ في قلب المرء أن إختيار هذا السبيل بالعمل أو ذاك ليس أمرا متروكا للإنسان وحده ولكن له أسباب وسنن وأقدار فإن لم يكن ذلك كذلك فإنه لم يعد من معنى لكونه سبحانه خالقا صانعا مالكا معبودا بذلك عن جدارة ولكون الإنسان مخلوقا مصنوعا مملوكا عابدا بذلك عن جدارة ولكنه حر في ذلك بين العبودية والكفر ليتحمل مسؤوليته كاملة يوم القيامة تكريما له على من يعبده سبحانه كرها.
وأخيـــــــــــــــــــرا ...
فإن حسن الخاتمة شرط في صلاح العمل وركن من أركانه بمثل الباعث عليه أي النية ومن أدلج لإدراك حسن الخاتمة بلغ بحوله وفضله سبحانه فهو عامل يجدد دينه ويزين حياته بالصبر والشكر واليقين ويجمع بين الإيمان والإنفاق وبين الحق والخير ويستعين على ذلك دوما بالدعاء الضارع في كل سجدة أما من فرط في نفسه وتمنى على الله الأماني فهو الأحمق الذي يعد للدنيا أسبابها فينال منها بذلك كثيرا فإذا جاء إلى دينه يصلحه عجز عن الأسباب ولو أحسن النية لأحسن العمل كما قيل.
اللهم أحسن عاقبتنا في الدارين ..
اللهم أجعل خير أيامنا يوم نلقاك وخير أعمالنا خواتيمها ..
اللهم طول أعمارنا وإملأها جهادا وإجتهادا وصبرا وشكرا ويقينا ثم إختمها بالشهادة في سبيلك ..
آمين .. آمين .. آمين ..
والله تعالى أعلم.