بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لانبي بعده ,,,,
وأما بعد :
فهذه
رسالة في بيان فضل الصيام ومضاعفة الأجر فيه وبيان لماذا خص الله تعالى
الصيام بإضافته إلى نفسه دون سائر الأعمال وتوضيح الأثر الذي يتركه الصيام
على النفس من تزكيتها وتهذيبها ثم بيان طبقات الصائمين وما أعد الله لهم
من جنته وقد اخترناها لك – أخي القارئ- من كتاب لطائف المعارف فيما لمواسم
العام من الوظائف للحافظ ابن رجب الحنبلي وقد سميناها (فضل الصيام) نسأل الله تعالى أن ينفع بها إنه ولي ذلك والقادر عليه .
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
«كل
عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف قال الله عز وجل :
إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزئ به إنه ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي
للصائم فرحتان : فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه ولخلوف فم الصائم أطيب
عند الله من ريح المسك ».
الصيام ومضاعفة الأجر
استثنى
الله الصوم من الأعمال كلها تضاعف بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا
الصيام فإنه لا ينحصر تضعيفه في هذا العدد بل يضاعفه الله عز وجل أضعافا
كثيرة بغير حصر عدد فإن الصيام من الصبر وقد قال تعالى : {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَاب} [الزمر:10] ولهذا ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمى شهر رمضان شهر الصبر وفي حديث آخر عنه صلى الله عليه وسلم قال : «الصوم نصف الصبر».
والصبر ثلاثة أنواع :
صبر على طاعة الله وصبر عن محارم الله وصبر على أقدار الله المؤلمة وتجتمع
الثلاثة كلها في الصوم فإن فيه صبرا على طاعة الله وصبرا عما حرم الله على
الصائم من الشهوات وصبرا على ما يحصل للصائم فيه من ألم الجوع والعطش وضعف
النفس والبدن وهذا الألم الناشئ من أعمال الطاعات يثاب عليه صاحبه.
واعلم أن مضاعفة الأجر للأعمال تكون بأسباب منها : شرف المكان المعمول فيه ذلك العمل كالحرم ولذلك تضاعف الصلاة في مسجدي مكة والمدينة كما قال صلى اله عليه وسلم : «صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام» ومنها : شرف الزمان كشهر رمضان وعشر ذي الحجة كما قال صلى اله عليه وسلم : «من تطوع فيه بخصلة من خصال الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه ومن أدى فيه فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه».
فلما
كان الصيام في نفسه مضاعفا أجره بالنسبة إلى سائر الأعمال كان شهر رمضان
مضاعفا على سائر الصيام لشرف الزمان وكونه هو الصوم الذي أفرضه الله على
عباده وجعل صيامه أحد أركان الإسلام التي بني الإسلام عليها .
لماذا خص الله الصيام بإضافته إلى نفسه دون سائر الأعمال ؟
خص الله الصيام بإضافته إلى نفسه دون سائر الأعمال فقال : «إلا الصيام فإنه لي» وقد كثر القول في معنى ذلك من الفقهاء وغيرهم وذكروا فيه وجوها كثيرة ومن أحسن ماذكر فيه وجهان :
أحدهما :
أن الصيام هو مجرد ترك حظوظ النفس وشهواتها الأصلية التي جلبت على الميل
إليها لله عز وجل ولا يوجد ذلك في عبادة أخرى غير الصيام لأن الإحرام إنما
يترك فيه الجماع ودواعيه من الطيب دون سائر الشهوات من الأكل والشرب وكذلك
الاعتكاف مع أنه تابع للصيام وأما الصلاة فإنه وإن ترك المصلي فقد الطعام
والشراب في صلاته بل قد نهي أن يصلي ونفسه تتوق إلى طعام بحضرته حتى
يتناول منه ما يسكن نفسه ولهذا أمر بتقديم العشاء على الصلاة .
وهذا
بخلاف الصيام فإنه يستوعب النهار كله فيجد الصائم فقد هذه الشهوات وتتوق
نفسه إليها خصوصا في نهار الصيف لشدة حره وطوله ولهذا روي أن من خصال
الإيمان الصوم في الصيف وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يصوم رمضان في
السفر في شدة الحر دون أصحابه كما قال أبو الدرداء وورد أنه صلى الله عليه
وسلم كان بالعرج يصب الماء على رأسه وهو صائم من العطش أو من الحر .
فإذا
اشتد توقان النفس إلى ماتشتهيه مع قدرتها عليه ثم تركته لله عز وجل في
موضع لا يطلع عليه إلا الله كان ذلك دليلا على صحة الإيمان فإن الصائم
يعلم أن له ربا يطلع عليه في خلوته وقد حرم عليه أن يتناول شهواته المجبول
على الميل إليها في الخلوة فأطاع ربه وامتثل أمره واجتنب نهيه خوفا من
عقابه ورغبة في ثوابه فشكر الله تعالى له ذلك واختص لنفسه عمله هذا من بين
سائر الأعمال ولهذا قال بعد ذلك : «إنه إنما ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي».
ولما
علم المؤمن الصائم أن رضا مولاه من ترك شهواته قدم رضا مولاه فصارت لذته
في ترك شهوته لله لإيمانه باطلاع الله عليه وثوابه وعقابه أعظم من لذته في
تناولها في الخلوة إيثارا لرضا ربه على هوى نفسه بل المؤمن يكره ذلك في
خلوته أشد من كراهته لألم الضرب وهذا من علامات الإيمان أن يكره المؤمن ما
يلائمه من شهواته إذا علم أن الله يكرهه فتصير لذته فيما يرضي مولاه وإن
كان مخالفا لهواه ويكون ألمه فيما يكرهه مولاه وإن كان موافقا لهواه كما
قيل :
عذابه فيك عذب *** وبعده فيك قرب
وأنت عندي كروحي *** بل أنت منها أحب
حسبي من الحب أني *** لما تحب أحب
الوجه الثاني :
أن الصيام ير بين العبد وربه لا يطلع عليه غيره لأنه مركب من نية باطنه لا
يطلع عليها إلا الله وترك لتناول الشهوات التي يستخفى بتناولها في العادة
ولذلك قيل : لاتكتبه الحفظة وقيل : إنه ليس فيه رياء وقد يرجع إلى الأول
فإن من ترك ما تدعوه نفسه إليه لله عز وجل حيث لا يطلع عليه غير من أمره
ونهاه دل صحة إيمانه والله تعالى يحب من عباده أن يعاملوه سرا بينهم وبينه
بحيث لا يطلع على معاملتهم إياه سواه حتى كان بعضهم لما اطلع على بعض
سرائره : إنما كانت تطيب الحياة لما كانت المعاملة بيني وبينه سرا ثم دعا
لنفسه بالموت فمات . المحبون يغارون من اطلاع الأغيار على الأسرار التي
بينهم وبين من يحبهم ويحبونه.
لاتذع السر المصون فإنني *** أغار على ذكر الأحبة من صحبي
الصيام وتربية النفس
في التقرب إلى الله تعالى بترك ما تشتهيه نفس الصائم من طعام والشراب والنكاح فوائد :
منها: كسر النفس فإن الشبع والري ومباشرة النساء تحمل النفس على البطر والغفلة.
ومنها :
تخلي القلب للفكر والذكر فإن تناول هذه الشهوات قد يقسي القلب ويعميه
ويحول بين العبد وربين الذكر والفكر ويستدعي الغفلة وخلو الباطن من الطعام
والشراب ينور القلب ويوجب رقته ويزيل قسوته ويخليه للذكر والفكر.
ومنها :
أن الغني يعرف قدر نعمة الله عليه بإقداره له على مامنعه كثيرا من الفقراء
من فضول الطعام والشراب والنكاح فإنه بامتناعه من ذلك في وقت مخصوص وحصول
المشقه له بذلك يتذكر به من منع ذلك على الإطلاق فيوجب له ذلك شكر نمة
الله عليه بالغنى ويدعوه إلى رحمة أخيه المحتاج ومواساته بما يمكن من ذلك.
ومنها : أن الصيام يضيق مجاري الدم
التي هي مجاري الشيطان من ابن آدم فإن الشيطان يجري من اين آدم مجرى الدم
فتسكن بالصيام وساوس الشيطان وتنكسر سورة الشهوة والغضب ولهذا جعل النبي
صلى الله عليه وسلم الصوم وجاء لقطعه عن شهوة النكاح.
واعلم أنه
لايتم التقرب إلى الله تعالى بترك هذه الشهوات المباحة في غير حالة الصيام
إلا بعد التقرب إليه بترك ما حرمه الله في كل حال من الكذب والظلم
والعدوان على الناس في دمائهم وأموالهم وأعراضهم ولهذا قال النبي صلى الله
عليه وسلم : «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه» .وقال بعض السلف : " أهون الصيام ترك الشراب والطعام ". وقال جابر رضي الله عنه :
" إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم ودع أذى الجار وليكن
عليك وقار وسكينة يوم صومك ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء ".
إذا لم يكن في السمع مني تصاون *** وفي بصري غض وفي منطقي صمت
فحظي إذا من صومي الجوع والظما *** فإن قلت إني صمت يومي فما صمت
وسر
هذا أن التقرب إلى الله تعالى بترك المباحات لا يكمل إلا بعد التقرب إلى
إليه بترك المحرمات فمن ارتكب المحرمات ثم تقرب بترك المباحات كان بمثابة
من ترك الفرائض ويتقرب بالنوافل وإن كان صومه مجزئا عند الجمهور بحيث لا
يؤمر بإعادته لأن العمل إنما يبطل بارتكاب ما نهي عنه فيه لخصوصه دون
ارتكاب ما نهي عنه لغير معنى يختص به . هذا هو أصل جمهور العلماء وفي مسند
الإمام أحمد : أن امرأتين صامتا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فكادتا
أن تموتا من العطش فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأعرض ثم ذكرتا له
فدعاهما أن يتقيئا فقاءتا ملء قدح قيحا ودما وصديدا ولحما عبيطا فقال
النبي صلى الله عليه وسلم : «إن هاتين صامتا عما أحل الله لهما وأفطرتا على ما حرم الله عليهما جلست إحداهما إلى الأخرى فجعلتا يأكلان لحوم الناس».